بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين,بارئ الخلائق أجمعين,باعث الأنبياء والمرسلين,ثم الصلاة والسلام على سيدنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين الأبرار المنتجبين الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا,واللعنة الدائمة الأبدية على أعدائهم إلى يوم الدين,ولاحول ولاقوه الابالله العلي العظيم.
يقول سبحانه وتعالىالَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا)"رسالات الله" سبحانه وتعالى عنوان واسع,مترامي الأطراف,يشمل فيما يشمل العناوين التالية ,والتي مضى بعض الحديث عنها في المحاضرات السابقة,وسنكمل الحديث عن البعض الأخر,بحسب مايسمح به الوقت إن شاء الله تعالى .فقه"رسالات الله"تشمــــــــــــــل: 1.فقه العناوين الأولية 2.فقه العناوين الثانوية 3.فقه الواجبات والمحرمات الغيرية المقدمية 4.فقه المسائل المستحدثة 5.فقه الموضوعات المستنبطة 6.وتشمل ـ في تصورنا ـ فقه الموضوعات الصرفة 7.فقه واجبات ومسؤوليات الدولة 8.فقه المجتمع, الذي يقع في قابل فقه الاحوال الشخصية 9.فقه الشؤون العامة وهذه العناوين وان كان بين بعضها والبعض الاخر تداخل ,وكانت النسبة أحيانا العموم والخصوص من وجه,وأحيانا أخرى العموم والخصوص المطلق ,إلا أنها أفردت بالذكر لأهميتها,وفرزت لشدة الحاجة إليها وقلة التصدي لها في الجملة. والحديث في كل هذه العناوين التسعة يحتاج إلى أشهر من الكلام ,ولكننا سوف نوجز الحديث عن بعضها بما تيسر,مماهو خلاف المشهور(كفقه الموضوعات الصرفة),اوماكان موفقا لرأي جمع من الفقهاء (كفقه الموضوعات المستنبطة) حيث اختلفوا فيها1,اومما لاخلاف فيه (كفقه العناوين الأولية)و(فقه العناوين الثانوية). و لنبدأ ببعض هذه العناوين,تاركين الكلام عن البعض الأخر للمحاضرات اللاحقة إن شاء الله تعالى :فقه مســـــــــــــؤوليات الدولة وهو من الرسالات الإلهية المهملة إلى حد ما , ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك :منها 1): المدين المعسر,والذي لايستطيع سداد دينه فعلى الدولة أن تسدد دينه ,ومن المعلوم أن (بيت المال) تصب فيه كل واردات النفط وغيره,والدولة مسؤولة من الناحية الشرعية والعقلية عن آحاد المجتمع وعن ديونهم ,فكل معسر ـ وما أكثرهم ـ لايستطيع سداد دينه ,فمن الواجب الشرعي ـ الذي لاريب فيه ـ والعقلي على الدولة أن تسدد ديونه من بيت المال . وهذه المسالة الفقهية وان كانت مطروحة في كتب الفقه ,ولكن أين صداها ؟ وأين الدراسات التي كتبت على ضوء هذه المسالة الاقتصادية الحيوية؟ وأين الكتب المتخصصة بالحديث في هذا؟ثم أين الإعلام عن ذلك ؟وأين الخطباء عن طرح مثل هذه المسالة وتثقيف الناس عليها؟ وأين البرلمان اومجلس الأمة عن تشريع مثل هذا الحكم الشرعي ألعقلائي الواضح؟! وليس الأمر خاصا بهذه الدولة اوتلك, إذ حتى الدول المسماة ب(الدول الديمقراطية)لم تصل إلى إنسانية الإسلام ,وان ادعت ما ادعت وزمرت لنفسها وطبلت ، فالمعسر لايسجن ـ مادام معسراـ بل على الدولة أن تسدد ديونه ,إذ الدولة لها من الأموال من واردات النفط وسائر المعادن والصناعات والزراعة وغير ذلك,إلى ماشاء الله تعالى . ومع غياب التقنين ,والإعلام الضاغط ,والتثقيف,فان من الطبيعي ان لا تلتزم الدولة بذلك .
والحاصل:إن الفقه ليس هو التصدي للاجابة عن الاحوال الشخصية فحسب بل لابد من التصدي لفقه واجبات ومسؤوليات الدولة .فمن الواجب علينا أن ندرسه ونطرحه ونبحثه ، والدولة –اية دولة- اذا لم تر من يتكلم,ولم تكن توجد مراكز دراسات وصحف ومجلات، تكتب حول ذلك, ولا مؤسسات مجتمع مدني ضاغط، فإنها تميل ـ عادةـ إلى تمركز القدرة وتكريس الثروة بأيدي القائمين عليها .ومنها 2):حق الانتماء إلى الوطن، والمسمى حاليا بـ(الجنسية)- مع انه لاجنسية في الاسلام؛ إذ الناس كلهم عباد الله ,وأي شخص حل في ارض فهو مواطن في ذلك البلد له ما لأهله وعليه ماعليهم- ولكننا نجد أن القيود تفرض, والحدود تغلق ,ولا يحق لأحد الدخول إلى بلاد الإسلام اوغيرها إلا بشق الأنفس,ووفق شروط خاصة . فلماذا البرلمان لايشرع, والخطيب لايتكلم ,والصحفي لايكتب,والنقابات لاتطالب, بان إي إنسان جاء إلى إي بلد فهو مواطن ؛إذ الأرض لله وهذا عبد من عبيد الله ، فما هذه القيود التي ما انزل الله بها من سلطان، رغم مع وجود هذا القانون الشرعي الإلهي الذي لاشك فيه ,وأما عكسه فهو بدعة غربية لاشك فيها. وهناك اشكالات واهية قد تثار بهذا الصدد,مثلا:إننا إذا فتحنا الباب في هذا البلد ليتجنس فيه أي وافد فان ذلك يستلزم الفوضى ودخول المجرمين واشباههم!! ونقول - لمن لا يقتنع بحكمة وصوابية قانون الإسلام-: يكفيك شاهدا من العالم المعاصر؛ فهذا (الاتحاد الأوربي)عمل ببعض قانون الإسلام ,وألغى الحدود الجغرافية بين داخل دول الاتحاد، فلا جواز ولا جنسية ولا هوية, فهل لزمت من ذلك الفوضى أو أطاح المجرمون ببلدانهم البالغة (27)دولة ؟ إذا الدولة مسؤولة عن كل من يسكن على أراضيها,أو يعبر أليها ,وله كل الحقوق في تلك الدولة من تأسيس شركة أو معمل أو حيازة مباحات، او تاسيس نقابات واتحادات ومنظمات وغيرها. وعندها لاحظوا كيف أن هذا البلد سينهض ويزدهر وينتعش فيما لو عمل بهذا الفقه ,المنسي إلى حد كبير .ومنها 3):خفض أو رفع سعر العملة . ان تخفيض أو رفع سعر العملة يؤثر على مجمل الوضع الاقتصادي للبلد سلبا أو إيجابا , ويؤثر على آحاد المزارعين و الصناعيين واصحاب الحرف والمصدرين والمستوردين والموظفين وغيرهم . والمجتمع عندما يكون بعيدا عن (فقه مسؤوليات الدولة) فمن الطبيعي أن الدولة تعمل ما يحلو لها و تتلاعب بسعر العملة تبعاً لمصالح اصحاب النفوذ او الشركات الكبرى. وهذه القضية تعد من أهم مسارات النزاع والصراع بين الدول الكبرى . فهذه الدولة تحتج على تلك الدولة انك لم أبقيت سعر (الين) مثلا منخفضا أو مرتفعا؛لان كل خفض أو رفع ، يؤثر في نفس اللحظة على مدا خيل الملايين من الناس . توضيح ذلك: إذا كان سعر العملة منخفضاً فان الصادرات لهذه الدولة ستنشط وتنتعش أما الاستيراد فسيصاب بالتعثر والصعوبة ,والعكس بالعكس، وهذه معادلة اقتصادية واضحة . فالصين مثلا بقيت مصرة على خفض قيمة عملتها ,والدول الأخرى تضغط عليها لكي ترفع من قيمة العملة, فان العملة إذا ارتفعت فالمعادلة ستكون بالعكس تماما أي ستضر بالملايين من الناس وتنفع آخرين بين مصدر ومستورد . والشعوب عادة لا تعرف هذه المعادلات,ولكن مسؤولية العلماء وأساتذة الجامعات والمفكرين ,خصوصا العلماء لكونهم حماة حقوق الناس, وحماة الأحكام الشرعية، واذا كانت سرقة دينار واحد حراماً, وكان النهي عن هذا المنكر واجباً شرعياً، و كان حكم السارق قطع اليد مع توفر الشروط المعروفة والبالغة (44)شرطا, فما بالكم بالتي قد تسرق ملايين الناس بقرار واحد وبكل بساطة؟ ,وقد تسرق مئات الملايين او المليارات؟ فأين فقه واجبات الدولة ؟! والأمثلة في هذا الحقل كثيرة جدا .ومنها 4):النفط والثروات الطبيعية :فمن الناحية الشرعية فان النفط ليس ملكا للدولة ,بل يقسم على عامة الناس ,كما كان يصنع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) ، اذ كان يقسم أي شئ يأتي إلى بيت المال وعلى الفور، كما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه واله من قبل.والدولة أمينة على اموال الشعب و ليس المالك و الآمر, والناهي,والأول, والأخير, في الثروات الطبيعية للبلد . وعندما نقول: هكذا كان يصنع أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)فقد لايعلم البعض ـ ممن لايعرف هذا العظيم الإلهي ـ ذلك, ولعل البعض يتصور ان الشروط الموضوعية تغيرت،-ومع قطع النظر عن بداهة ان القوانين الاسلامية هي فوق الزمان والمكان وان (حلال محمد حلال الى يوم القيامة)، وان الاسلام هو اكمل الاديان والشرائع وخاتمتها؛- ولذا فان الجواب الذي قد يقنع البعض هو: ان إحدى دول العالم في الوقت الحاضر تصنع ذلك على مواطنيها سنويا، ولم يسبب ذلك اضطراباً في الاقتصاد، بل انه نشط حركة دوران راس المال و انتعش الاقتصاد .فينبغي ان يتثقف النخبة و المتصدين لتشريع القوانين الوضعية ب(فقه الدولة)، وإلا فان الدولة – ان لم يطرح عليها البديل الاسلامي الافضل، فسوف تسير على المنهج الغربي.(ولقد أبصرت قدامي طريقا فمشيت).
فقه المسائل المستحدثة هذا العنوان معهود ,ولكن المسائل المستحدثة تعد بالألوف بل بعشرات الألوف, وهذه المسائل كلها تحتاج إلى تنقيح وبحث، وفي الدرجة الأولى أن يُبيّن الحكم الشرعى في هذه المسائل ـ والكثير من هذه المسائل لعلها لاتوجد فيها فتوى أصلا ـ، والدرجة الأعلى أن تقوم ثلة من العلماء ومن اهل الخبرة والاختصاص بدراسة كل مفردة مفردة سواء في الاقتصاد أم في الحقوق ام غير ذلك . ونذكر لذلك مثالا: الأغذية المعدلة وراثيا؛ فان بعض الشركات والمعامل والدول تتلاعب بالجينات الوراثية للنبات لدوافع اقتصادية اوغير ذلك، وهذه المسالة مهمة وحيوية ولها أبعادها الاقتصادية الواسعة ولها أضرارها الصحية الشاسعة . فأين الدراسات البحوث في هذا الحقل.؟ مثال آخر :هل يستطيع الشخص أن يتوظف في الدولة بوظيفتين مع منع الدولة عن ذلك ؟ مثال ثالث : المسائل الشرعية التي ترتبط بالهاتف المحمول- النقال- فما أكثر هذه المسائل ، مثلا : هل يجوز لممتلك النقال أن يبعث بالرسائل والصور للهواتف النقالة المجاورة -وان لم تكن تلك الصور محرمة- عبر خدمة البلوتوث ؟ هل يجوز له أن يسحب صوراً ومعلومات من تلك الهواتف بنفس الطريقة ؟ وماهو حكم فائض الرصيد الموجود في الهاتف عند حلول رأس السنة الخمسية ,هل يتعلق به الخمس أم لا؟وهل يجوز إدخال النقال مشغلا إلى المسجد أو الحسينية أو المدرسة مع وجود لوحة تقول :لايسمح بتشغيل الهاتف في ذلك المكان ؟ وهل يجوز الشراء من المحل الذي يروج لهواتفه النقالة ,ببعض الصور المبتذلة؟ وهل المعاملة صحيحة عندئذٍ؟ وهل يجوز الغش في الامتحان عبر الهاتف الجوال.؟ والمسائل حول الهاتف النقال بالمئات، والسيد العم (دام ظله) صدر حديثا من مكتبه كتاب باسم (مختصر المقال في أحكام الهاتف النقال) وفيه مئة مسالة، وهي خطوة في محلها , و ينبغي أن تكون هناك العشرات من الكتب والكتيبات، حول شتى المسائل المستحدثة، كما ان الكثير من فقهائنا الكرام – الماضين منهم والمعاصرين حفظهم الله تعالى- كتبوا الكثير من الكتب او الدراسات حول الكثير من المسائل المستحدثة او اجابوا عن كثير من الاستفتائات المعاصرة – شكر الله جهودهم جميعاً- الا ان الامر هو ان هذا البحر – بحر المسائل المستجدة- بحر واسع مترامي الاطراف فيحتاج الى ان يُبذل جهوداً استثنائية في كل تلك الحقول. ذلك انه توجد في (فقه المسائل المستحدثة) عشرات بل مئات الألوف من المسائل ,وخاصة في الاقتصاد والمصارف والبنوك ,فان المسائل في ذلك كثيرة جدا ,وبعضها معقد ويحتاج إلى خبروية حقيقية في علم الاقتصاد ,فضلا عن علم الفقه.والشيخ الأنصاري (رحمه الله تعالى) كان انجازه في المكاسب المحرمة معجزا ؛لأنه حسب اقتصاد ذلك العصر ,كان كتاب المكاسب يمثل القمة ,لكن الاقتصاد وخلال هذه ال(150)عاماً تطور,وتطور معه كل شئ. فنحن الآن بحاجة إلى كتاب بمستوى المكاسب, يتناول بالبحث والدراسة المسائل المستجدة المختلفة النوعية ,التي حدثت خلال هذه السنين الأخيرة، وهي كثيرة جدا ومتشعبة حقاً . مثلا : ماهي الخلفية الاقتصادية للعملة ؟ اذ أن بعض الدول ـ سابقا ـ كانت تعتبر الذهب هو الخلفية الاقتصادية للعملة ,ولكن في عام (1972م) وبتخطيط يهودي صهيوني سبق ذلك ب(70)عام تقريبا ,فككت تلك الدولة2 الدولار ارتباط عملتها عن الذهب3. ماهو تأثير ذلك ؟ ولماذا ؟وكيف ؟ وإذا لم تكن عندنا مراكز دراسات مستقلة ,او كليات متخصصة ,او خبراء يبينون ذلك ,و باشراف من الفقهاء وتحقيقهم, فان الآخرين سوف يكونون سادة العالم ,وعملتهم هو العملة الأقوى في العالم , والذي به يسيطرون على كل مفاصل الاقتصاد في أرجاء المعمورة .والحاصل: ان المسائل المستحدثة كثيرة جداً، ثم ان الكثير منها معقد ومتشابك , ولابد لمن يخوض فيها أن يكون خبيراً اقتصادياً من الطراز الرفيع ,ويكون فقيها أيضا كالشيخ الأنصاري قدس سره ,حتى يستطيع بعد تشخيص الموضوع بكافة جوانبه , أن يبين الحكم الشرعي فيه 4.والحديث في العناوين الاخرى نتركه للمحاضرات القادمة ان شاء الله تعالى ذكره وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.