بسم الله الرحمن الرحيم :
قال تعالى : (( فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ﴿٧٩﴾ ))
و ردت هذه الآية الكريمة في سورة الأعراف على لسان سيدنا صالح عليه السلام بعد أن دعا قوم ثمود و كفروا و رفضوا الاستجابة لدعوته
إنها مشكلة البشر ، مشكلة في داخلنا جميعا و بنسب متفاوتة (( لا تحبون الناصحين ))
نعم مشكلة الكثيرين منا أن نفوسنا ترفض و تكره النصيحة و تتهرب من الناصح
و يقول رسول الله صلى الله عليه و سلم (( الدين النصيحة ))
فلماذا لا يحب الناس الناصحين و لماذا تأبى الكثير من النفوس أن تتقبل النصيحة من أحد
النصيحة إخوتي الكرام من أسس بناء المجتمع المسلم السليم كونها تدخل ضمن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هو سر خيريتنا و خيرية أمتنا كما تعرفون فقد قال تعالى
(( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف و تنهون عن المنكر و تؤمنون بالله ))
و مجتمع لا ناصحين فيه فلا بد أن يضيع و يختل توازنه بالتأكيد
في سورة الأعراف مرت كلمة النصح أكثر من مرة على لسان عدد من أنبياء الله و رسله صلوات الله و سلامه عليهم جميعا
و قد بعث الله الأنبياء ناصحين قبل أي أمر آخر ينصحون الناس بعبادة الله وحده و بالاستقامة و حسن الخلق و حسن التعامل مع الآخرين و إعمار الأرض بما يرضي الله عز و جل
وللنصح وجهان إما بالدعوة إلى خير و معروف
أو بالنهي عن سوء و ذنب
و لكن لماذا لا يحب الناس النصح يا ترى ؟؟
طبعا هناك عدة أسباب تمنع الناس من تقبل النصيحة حتى و لو كانت مفيدة لهم
و أولها التكبر
، نعم التكبر أهم و أخطر سبب من أسباب رفض البشر للنصيحة
و للتكبر عدة أشكال و مظاهر لكن أبشع أنواع التكبر رفض الحق
فعندما تنصح المتكبر بترك خطأ يرتكبه تراه يصر مدافعا عن خطئه و غير معترف به و عندما تدعوه إلى فضيلة يصر مستكبرا على رفض الانصياع إلى كلمة الحق
و نرى ذلك المعنى واضحا في قوله تعالى
((سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ ﴿١٤٦﴾))
فالمتكبر يصرفه الله تعالى عن قبول الحق لأن المتكبر يظن نفسه أكبر من أن ينصحه أحد
و نرى ذلك المعنى أيضا عندما جاء سيدنا موسى إلى فرعون بالبينات و الأدلة القاتطعة لكن تكبر فرعون و قومه و علوهم و غرورهم جعلهم يجحدوا و يكذبوا تلك الآيات رغم أنهم يعرفون في قرارة أنفسهم أنها الحق
قال تعالى (( و جحدوا بها و استنيقتها أنفسهم ظلما و علوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ))
و نرى نفس المعنى جليا في قوله تعالى في سورة البقرة
(( و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و لبئس المهاد ))
فعزته و كبرياؤه المذموم يمنعه من تقبل أي نصيحة
و من الأسباب أيضاً اتباع الهوى و الشهوات
فالكثير من الناس يرفضون النصيحة إن حرمتهم استجابتهم لها من لذة معصية أو شهوة أو رغبة في أنفسهم
فعندما تنصح أحدا مثلا بغض البصر يتهرب من نصيحتك إرضاء لهواه و رغبته في إشباع شهوته بالنظر إلى المحرمات
و عندما تنصح أحدا بترك الربا يرفض النصيحة لأنه يسعى فقط للحصول على المال و يجري وراء شهوة المال بلا تعقل و غير آبه بأي أمر آخر سوى مصلحته الدنيوية الرخيصة و يشتري دنياه بآخرته و لا حول و لا قوة إلا بالله
قال تعالى : (( بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ ﴿٢٩﴾ ))
و من الأسباب أيضا قسوة القلب
فكثرة المعاصي و الذنوب تجعل القلوب سوداء قاتمة قاسية كالحجارة بل أشد قسوة
و عندما يقسو القلب يصيب العقل غشاوة و يعمى البصر و البصيرة و يرفض الإنسان أي نصيحة تذكره بالحق
و نرى ذلك المعنى واضحا في قوله تعالى في سورة الحديد
((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿١٦﴾))
فقسوة القلب من أهم أسباب رفض الناس للنصيحة أيضا
و من الأسباب أيضا الشيطان الرجيم و العياذ بالله منه
فوسوسة إبليس اللعين تجعل بعض الناس كارهين لتقبل النصيحة و الاعتراف بالخطأ
و نرى ذلك في قوله تعالى في سورة العنكبوت :
((وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمَ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ ﴿٣٨﴾))
فقد كان كل الأقوام الكفار يعرفون الحق لكن اتباعهم العمى للشيطان أعماهم و أضلهم و صدهم عن السبيل
إذا هناك عدة أسباب تجعل الناس لا يحبون الناصحين و أوردت لكم أهمها و هناك أسباب أخرى كثيرة لكن تلك الأسباب الأربعة هي الأهم
( التكبر و اتباع الهوى و قسوة القلب و الشيطان الرجيم و العياذ بالله )
و من أسباب عدم تقبل البعض للنصيحة أسلوب الناصح و سلوكه
و هذا يجرنا إلى نقطة في غاية الأهمية في بحثنا هذا
و هي : كيف تكون النصيحة و هل هناك صفات يجب أن يتمتع بها الناصح و شروط يجب أن يتقيد بها قبل أن ينصح ؟
بالتأكيد فليس كل من نصح ناصح و من غير المعقول أن يستمع الإنسان لنصائح من هب و دب فقد قال تعالى
(( و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله ))
طبعا من أهم صفات الناصح أن يكون أمينا ً و الأمانة هنا بكل أشكالها و ألوانها أمانة النقل و أمانة العهد و أمانة التعامل بين الناس
قال تعالى على لسان سيدنا هود في سورة الأعراف كذلك :
((أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ ﴿٦٨﴾))
و قد عرف كل الأنبياء عليهم الصلاة و السلام بالأمانة و قد وردت كلمة إني لكم رسول أمين في عدة آيات و كان سيدنا محمد صلى الله عليه و سلم يعرف حتى قبل البعثة بين قومه بالصادق الأمين
و الصدق من أهم شروط النصح أيضا فمن غير المعقول أن تقبل نصيحة شخص كاذب هدفه فقط الإساءة إليك أو إضلالك و التقليل من شأنك و بإمكانك أن تعرف الناصح الأمين الصادق من الناصح المخادع بسهولة من طريقة كلامه و من نبرة صوته و من أسلوبه المشبوه في النصح
و من أهمم الصفات التي يجب أن يتمتع بها الناصح الحكمة و اللين و اللطف في النصح فقد قال تعالى مخاطبا نبيه محمد صلى الله عليه و سلم
(( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن ))
و يقول تعالى أيضا (( و لو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك ))
و مع الأسف ينسى الكثيرون هذه القاعدة فتراهم ينصحون بأسلوب فظ و قاسي و منفر يجعل الناس يكرهون النصيحة أكثر فأكثر
فعلى الناصح أن يتبع أسلوبا حكيما هادئاً و ذكياً بنفس الوقت و قد يستخدم طرقا عديدة غير مباشرة لتقديم النصيحة
و كمثال على ذلك أراد رجل أن ينصح ابن جاره الشاب بترك التدخين و لم يرد أن يقول هذا صراحة أمام والد ذلك الشاب الذي لو علم لغضب و ربما ضرب ابنه و لهذا اتبع أسلوبا في غاية الذكاء فزار جاره و ابنه و تكلم أمام الشاب عن قصة شاب صغير في مقتبل العمر أصابته نوبة قلبية بسبب التدخين في سن مبكرة فشعر الشاب بالخجل و الخوف و وصلت النصيحة بأسلوب حكيم و ذكي
و من أهم شروط الناصح أن لا ينصح بأمر لا يفعله هو فكيف ينصح رجل مدخن ابنه بالبعد عن التدخين و السيجارة في فمه ؟؟؟
و كيف تنصح الأم المتبرجة المتكشفة ابنتها بالحجاب ؟؟
و كيف ينصح زير النساء صديقه بغض البصر ؟
بالتأكيد مستحيل و نجد ذلك المعنى في قوله تعالى
(( أتأمرون الناس بالبر و تنسون أنفسكم و أنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون ))
و كما يقول الشاعر :
لا تنه عن خلق و تأت به ..... عار عليك إذا فعلت عظيم
و هكذا و كما رأينا فللناصح صفات و شروط يجب أن تتوافر فيه كي يسمع الناس نصيحته و لا يشترط بأن يكون الناصح عالما أو شيخا أو فقيها بل المهم النية الصافية و الهدف السامي و الأسلوب الحكيم
فدعونا نفتح قلوبنا لنصائح المجربين العارفين و نتناصح كي يكون مجتمهنا صالحا و سليما
و الحمد لله رب العالمين