اصطفى
الله تعالى الأنبياء وخصهم بإبلاغ وحيه إلى خلقه، وجعلهم خير الناس، وفاضل
بينهم ، فقال سبحانه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى
بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
(البقرة:253)، وكان أفضلهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فعن أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد ولد آدم يوم
القيامة، وأول من ينشق عنه القبر، وأول شافع وأول مشفع) رواه البخاري.
وقد أوجب الله على المسلمين حب نبيهم صلى الله عليه وسلم، إذ أن محبته من
الإيمان، بل لا يتم الإيمان إلا إذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أحب إلى
الإنسان من نفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فعن أنس رضي الله عنه قال:
(لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين) رواه
البخاري.
ومن مقتضيات محبتنا للنبي صلى الله عليه وسلم أن نتبعه في أخلاقه وهديه
وسنته، ولكن ـ وللأسف ـ تباعد بنا الزمن، وكثرت بيننا الفتن، وشُغِلنا
بالحطام من الدنيا، وغاب عنا الحب الحقيقي لنبينا صلى الله عليه وسلم وإنِ
ادَّعيناه، بل نرى في واقع بعضنا مظاهر من الجفاء والتقصير في حب النبي صلى
الله عليه وسلم، ومن ثم ينبغي الحذر والبعد عنها.
ويأتي في أول هذه المظاهر ترك متابعته وتعظيمه، ونسيان سننه أو الاستخفاف
بها، وعدم تعلمها والعمل بها، فلا يستقيم حب المسلم للنبي صلى الله عليه
وسلم حتى يعظم سنته، ويعمل بها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (فمن رغب عن
سنتي فليس مني) رواه البخاري.
ويدخل في هذه الصورة من الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم رد بعض
الأحاديث الصحيحة الثابتة بحجة مخالفتها للعقل، أو عدم تمشيها مع الواقع،
أو المكابرة في قبولها لمخالفتها لهوى النفس، أو الدعوى الباطلة للعمل
بالقرآن وحده وترك ما سوى ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا ألفين
أحدكم متكئاً على أريكته، يأتيه الأمر من أمري، مما أمرت به أو نهيت عنه،
فيقول: لا ندري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه) رواه الترمذي.
قال الحميدي: "كنا عند الشافعي فأتاه رجل، فسأله في مسألة، فقال الشافعي:
"قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، فقال الرجل: ما تقول
أنت؟ فقال: سبحان الله تراني في كنيسة؟! تراني في بيعة؟! ترى على وسطي
زناراً؟! أقول لك: قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت تقول: ما
تقول أنت؟!".
وقال مالك: "أكلما جاءنا رجل أجدل من رجل، تركنا ما نزل به جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم لِجَدله".
وقال ابن القيم: "ومن الأدب معه صلى الله عليه وسلم ألا يُستشكَل قوله، بل
تُستشكَل الآراء لقوله، ولا يُعارَض نصه بقياس، بل تُهدَر الأقيسة وتلقى
لنصوصه، ولا يُحرف كلامه عن حقيقته لخيال يسميه أصحابه معقولاً".
ومن مظاهر الجفاء كذلك مع النبي صلى الله عليه وسلم ما نراه من عدم الوقار
والهيبة، وعدم الاهتمام وعلو الصوت حين الحديث أو الاستماع لأحاديث النبي
صلى الله عليه وسلم وسيرته، وكأنه حديث عابر، أو سيرة رجل عادي، مع أن حرمة
النبي صلى الله عليه وسلم وهو ميت كحرمته وهو حي، وقد قال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ
صَوْتِ النَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ
لِبَعْضٍ} (الحجرات:2)، ومن ثم حرص عمر بن الخطاب رضي الله عنه على تعليم
الناس أن تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ميتاً كتعظيمه حيًّا، وذلك من
تمام الحب والأدب مع النبي صلى الله عليه وسلم.
روى السائب بن يزيد قال: (كنت نائماً في المسجد فحصبني رجل، فنظرت فإذا عمر
بن الخطاب، فقال: اذهب فائتني بهذين فجئته بهما، قال: من أنتما؟ -أو: من
أين أنتما؟ـ قالا: من أهل الطائف، قال: لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما،
ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم) رواه البخاري.
وكان مالك إذا أراد أن يخرج يحدِّث, توضأ وضوءه للصلاة, ولبس أحسن ثيابه,
ومشَّط لحيته, فقيل له في ذلك, فقال: أوقّر به حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم.
وكان عبد الرحمن بن مهدي إذا قرأ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر
الحاضرين بالسكوت، فلا يتحدث أحد، ولا يُبرى قلم، ولا يبتسم أحد، ولا يقوم
أحد قائماً، كأن على رؤوسهم الطير، أو كأنهم في صلاة.
ومن صور الجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم، عداء مَنْ يعلمون الناس سنته
صلى الله عليه وسلم، ويتمسكون بها، ويدعون إليها، ويتمثل ذلك في اغتيابهم
ولمزهم والاستهزاء بهم، وانتقادهم وعيبهم على التزامهم بالسنن ظاهراً
وباطناً.
ويلحق بالجفاء مع النبي صلى الله عليه وسلم عدم معرفة خصائصه ومعجزاته التي
خصه الله بها لعلو قدره ومنزلته؛ إذ معرفة خصائصه ومعجزاته وسيرته تزيد
المسلم حباً وتوقيراً، وأدباً واتباعاً له صلى الله عليه وسلم.
ومن الجفاء معه صلى الله عليه وسلم - وإن أخذ صورة الحب ـ الغلو فيه، ورفعه
فوق منزلة النبوة، وإشراكه في علم الغيب، أو سؤاله من دون الله، أو الحلف
به، إذ في ذلك مخالفة لهديه ودعوته، بل يخالف الأصل الذي أرسله الله به وهو
التوحيد، فهو صلى الله عليه وسلم عبد الله ورسوله، والحق وسط بين الغالي
والجافي، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم: (لا تُطروني كما أطرت النصارى ابن
مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله) رواه البخاري.
ومن صور الجفاء التي يُحْرم المسلم بسببها الخير الكثير: ترك الصلاة عليه
صلى الله عليه وسلم؛ إذ تفوته الصلاة المضاعفة من الله عليه، إذ لم يصلِّ
على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى عليّ
صلاة، صلى الله عليه بها عشراً) رواه البخاري.
وتلحق بصاحب هذه الصورة من الجفاء صفة البخل التي أطلقها النبي صلى الله
عليه وسلم عليه حين قال: (البخيل: من ذُكِرْتُ عنده، فلم يصلِّ عليَّ) رواه
الترمذي.
وكذلك من الجفاء عدم معرفة قدر أصحابه وفضائلهم، أو الانتقاص من أحدهم، فقد
كان لهم شرف الصحبة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا أصحابي،
فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه)
رواه البخاري.
فالحب والتوقير للنبي صلى الله عليه وسلم يقتضي موالاة وحب من كان يوالي
ويحب، والرضا بما كان يرضى به، والغضب لما كان يغضب له؛ ولذا تمتلئ كتب
السنة والسيرة ببيان فضل الصحابة رضوان الله عليهم، وحب النبي صلى الله
عليه وسلم لهم، والتحذير من بغض أحد منهم، أو الانتقاص منه، فهم أصحابه
الذين صاحبوه، وأحبهم وأحبوه رضوان الله عليهم.
هذه بعض مظاهر الجفاء التي يتصف بها البعض مع رسول الله صلى الله عليه
وسلم، ذكرناها للحذر منها والبعد عنها، لعل الله أن يزيد المهتدي هدى،
والمغالي قصداً واعتدالاً، وأن يبدل الجافي حباً وأدباً، والبعيد قرباً
واتباعاً للنبي الحبيب صلى الله عليه وسلم.